وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) باعتقال الرجال ، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن مسلمة الأنصاري ، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية ، وقامت الأوس إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقالوا : يا رسول الله ، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت ، وهم حلفاء إخواننا الخزرج ، وهؤلاء موالينا ، فأحسن فيهم ، فقال : ( ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ ) قالوا : بلى . قال : ( فذاك إلى سعد بن معاذ ) . قالوا : قد رضينا .
فأرسل إلى سعد بن معاذ ، وكان في المدينة لم يخرج معهم للجرح الذي كان قد أصاب أكْحُلَه في معركة الأحزاب . فأُركب حماراً ، وجاء إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فجعلوا يقولون ، وهم كَنَفَيْهِ : يا سعد ، أجمل في مواليك ، فأحسن فيهم ، فإن رسول الله قد حكمك لتحسن فيهم ، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً ، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى إليهم القوم .
ولما انتهى سعد إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) قال للصحابة : ( قوموا إلى سيدكم ) ، فلما أنزلوه قالوا : يا سعد ، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك . قال : وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا : نعم. قال: وعلى المسلمين ؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى من هاهنا ؟ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إجلالاً له وتعظيمًا . قال : ( نعم ، وعلي ) . قال : فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال ، وتسبى الذرية ، وتقسم الأموال ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات ".
وكان حكم سعد في غاية العدل والإنصاف ، فإن بني قريظة ، بالإضافة إلى ما ارتكبوا من الغدر الشنيع ، كانوا قد جمعوا لإبادة المسلمين ألفاً وخمسمائة سيف ، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع ، وخمسمائة ترس ، وحَجَفَة ، حصل عليها المسلمون بعد فتح ديارهم .
وأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فحبست بنو قريظة في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة ، ثم أمر بهم ، فجعل يذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً ، وتضرب في تلك الخنادق أعناقهم . فقال من كان بعد في الحبس لرئيسهم كعب بن أسد : ما تراه يصنع بنا ؟ فقال : أفي كل موطن لا تعقلون ؟ أما ترون الداعي لا ينزع ؟ والذاهب منكم لا يرجع ؟ هو والله القتل ـ وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة ، فضربت أعناقهم .
وهكذا تم استئصال أفاعي الغدر والخيانة ، الذين كانوا قد نقضوا الميثاق المؤكد ، وعاونوا الأحزاب على إبادة المسلمين في أحرج ساعة كانوا يمرون بها في حياتهم ، وكانوا قد صاروا بعملهم هذا من أكابر مجرمي الحروب الذين يستحقون المحاكمة والإعدام .
وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير ، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها كان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب ، فلما أتي به ـ وعليه حُلَّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يُسْلَبَها ـ مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، قال لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) : أما والله ما لمت نفسي في معاداتك ، ولكن من يُغالب الله يُغْلَب . ثم قال : أيها الناس ، لا بأس بأمر الله ، كتاب وقَدَر ومَلْحَمَة كتبها الله على بني إسرائيل ، ثم جلس ، فضربت عنقه .
وقتل من نسائهم امرأة واحدة كانت قد طرحت الرحى على خَلاَّد بن سُوَيْد فقتلته ، فقتلت لأجل ذلك .
وكان قد أمر رسول الله بقتل من أنْبَتَ ، وترك من لم ينبت ، فكان ممن لم ينبت عطية القُرَظِي ، فترك حياً فأسلم ، وله صحبة .
واستوهب ثابت بن قيس ، الزبير بن باطا وأهله وماله ـ وكانت للزبير يد عند ثابت ـ فوهبهم له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال له ثابت بن قيس : قد وهبك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك . فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه : سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة ، فضرب عنقه ، وألحقه بالأحبة من اليهود ، واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم وله صحبة .
واستوهبت أم المنذر سلمي بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي ، فوهبه لها فاستحيته ، فأسلم وله صحبة .
وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم.
وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدي ـ وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي ، فخلى سبيله حين عرفه ، فلم يعلم أين ذهب .
وقسم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس ، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم ، سهمان للفرس وسهم للفارس ، وأسهم للراجل سهماً واحداً ، وبعث من السبايا إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بها خيلاً وسلاحاً .
واصطفى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لنفسه من نسائهم رَيْحَانة بنت عمرو بن خُنَافة ، فكانت عنده حتى توفي عنها وهي في ملكه ، هذا ما قاله ابن إسحاق . وقــال الكلبي : إنه(صلى الله عليه وسلم) أعتقها ، وتزوجها سنة 6 هـ ، وماتت مرجعـه مـن حجة الـوداع ، فدفنها بالبقيـع .
ولما تم أمر قريظة أجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه ـ التي قدمنا ذكرها في غزوة الأحزاب ـ وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب ، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته . قالت عائشة : فانفجرت من لَبَّتِهِ فلم يَرُعْهُمْ ـ وفي المسجد خيمة من بني غفار ـ إلا والدم يسيل إليهم ، فقالوا : يا أهل الخيمة ، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم ، فإذا سعد يغذو جرحه دماً ، فمات منها .
وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال : " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ". وصحح الترمذي من حديث أنس قال : لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون : ما أخف جنازته ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : "إن الملائكة كانت تحمله ".
قتل في حصار بني قريظة رجل واحد من المسلمين ، وهو خلاد بن سُوَيْد الذي طرحت عليه الرحى امرأة من قريظة . ومات في الحصار أبو سِنان بن مِحْصَن أخو عُكَّاشَة .
وأما أبو لُبابة ، فأقام مرتبطاً بالجذع ست ليال ، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ، ثم يعود فيرتبط بالجذع ، ثم نزلت توبته على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) سَحَرًا وهو في بيت أم سلمة ، فقامت على باب حجرتها ، وقالت : يا أبا لبابة ، أبشر فقد تاب الله عليك ، فثار الناس ليطلقوه ، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فلما مر النبي(صلى الله عليه وسلم) خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه .
وقعت هــذه الغــزوة فـي ذي القعدة سنـة 5 هـ ، ودام الحصار خمساً وعشريـن ليلة .
وأنزل الله تعالى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب ، ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة ، وبين حال المؤمنين والمنافقين ، ثم تخذيل الأحزاب ، ونتائج الغدر من أهل الكتاب